
العالـم العربي ـ العدد 82 ـ 24 كانون الأول 1993
الكلمة
بعض الناس يتحوّل ربيعهم العاشر إلى خريف، فيتوقّف نموّهم في ظلّ مزموم الأبعاد والطاقات.
وبعض الناس يبدأ ربيعهم ولا ينتهي أبداً، يشيب الزمن على أكتافهم، ولا تنحني رؤوسهم والقامات.
الصديق الشاعر شربل بعيني، الذي نحتفل الآن بيوبيله الفضّي، هو واحد من هذا البعض، امتشق الكلمة، واعتنق الشعر. فإذا الكلمة سيف، وإذا الشعر بركان، والموهبة شلال، يتميّز بالخصوبة، وصفاء الوجدان الأدبي.
بطريقة الصدفة تعرّفت إليه، والصدفة كاللحظة، تفلت وتمضي ليأتي غيرها. اللحظة تغيب، ولا يكتبها الزوال، لأن الغائب الحقيقي هو جسد اللحظة، وأما روحها فتبقى، وتنزرع في الذاكرة، والذي يتولّد منها يصنع طريقه إلى الحياة.
تدخل عالمه الشعري، فتراه يصوّر بلا مناقشة، ويناقش بلا مشاغبة، ويشاغب على غير مشاكسة، ويشاكس بلا فوضى أو غوغائيّة، وكعشب البحيرات يتماوج بلا رعونة. تطول بك الإقامة أو تختصر النزهة، إلاّ أنّك تنسلخ ولا تغادر، في كفّيك قوس قزح، وفي مخيلتك سحبة ضوء مترامية الآفاق.
دائـم الحضور، كلاماً وحركة وفعلاً. الكلمة رسالته وسلاحه، يغطّ قلمه في الدم أو في النار، ويبرمه في مكامن الوجع، ليغسل صدأ الأيّام عن أشجار الجراح، وهريان الموت عن جفون الريح.
في بهاء اللغة يتجاوز شربل بعيني الوهم العدمي، ولا ينبهر فتأخذه الدهشة، بل يتخطّاها إلى لحظات حليفة للشمس تتوالد وتتكاثر، ويعرف أن الشعر عمارة لا يبنيها إلاّ الشعراء الحقيقيّون، ولا يزيد من عمارها من لا سلّم عنده ولو حمل حجراً، وكذلك من بلغ أعلى السّلم ولا حجارة جديدة لديه. فالثقافة هي الحجارة، والموهبة هي السلّم، وكلتاهما ضروريّة في عمليّة البناء.
ليكن شربل بعيني حلم مجدليّا.. أو عقل مجدليّا.. ما همّ!! الصحيح أنه شاعر يجيد ألأشياء، ويتقن ترجمة موهبته، ولا يرسب إلاّ في البهلوانيّة والزحلقة وانحناءة الكرامة.
سلّمه من ضلوع مجدليّا الطالعة صوب الشمس تحت جناحي أرزة، وثقافته مادة قراءات واهتمامات وتجارب قائمة بانخراطه في ورشة الحضور الإنساني.
القصيدة
لمحٌ على الريح، أم شالٌ من الشّهُبِ
يشتاقُ فوحُ دمي سيفاً من اللَّهبِ
يمضي به زمنُ الأحلامِ، يزرعُهُ
شيئاً من الصّوتِ، أو وهماً على السّحُبِ
حسبي من الشّعرِ أني حين يصلبُني
على الزمانِ، يطوف الحبُّ في هُدُبِي
فترقُصُ الأرضُ من حولي، كأنّ بها
رهجاً من الرّعدِ، أو وهجاً من الطَّرَبِ
فيستحيلُ صليبي في الهوى قمراً
وجرحي المزرقُّ منديلاً من العُشُبِ
وفي اغتسالِ الصّدى شفتانِ، أيّهما
تغامزُ المنتهى، يا شعرُ فاستجبِ
مرّت على الشّمسِ أجيالٌ مزرزرةٌ
وخاطرُ الشّمس شلاّلٌ من الذّهبِ
تمشي العواصفُ بركاناً إذا نزفتْ
فيها الجراحُ، وتحكي النّارُ في الكُتُبِ
الرّائدون هنا، والمبدعون هنا
وما تبقّى عناوينٌ بلا أدبِ
عصافيرها في دجى البلورِ زاحلةٌ
هاضت جناحاتها بالرّيش والزّغبِ
تموج في شجر الضوضاء صورتُها
كصورةِ المسخِ، لـم يرحلْ ولـم يَؤبِ
دَرْزُ الحروف كأوهامِ الأُولى دخلوا
مستنقَعَ الموتِ في شعرٍ من الخشَبِ
الرّيحُ تُقلِقُهُ والشمسُ تُحرِقُهُ
كتافِهٍ، في لهاثِ الغيمِ منسرِبِ
ثوبُ الحرير على ألأفعى، تدنّسُهُ
وبالحريرِ اهترار الذّئبِ لـم يَثِبِ
مرّوا على الأرضِ أشباحاً مزيّفةً
في صفحةِ الضّوءِ، لـم تكبر، ولـم تذُبِ
يستفظعون صدى الماضي ويبهرهم
من الوجوهِ، فقاقيعٌ من الشّغَبِ
كأنهم من لهيب الفكرِ ما اكتنزوا
إلاّ الدّخان، وقالوا: خارِقٌ ونبي
وصدّرونا إلى المجهولِ واخترعوا
للانتشارِ شجيراتٍ من الكَذِبِ
ويصرخ الوعد، كم وشوشتني، وأنا
يا ليلُ صومعتي نهر من الخطبِ
يا أنت.. يا وطني.. ساعي البريد هنا
سئمَتْ أصابعُهُ من رنّةِ التّعَبِ
مرحى طلائعكِ.. استفتي طلائعنا
يا شعلةَ الشّرقِ.. هذا شربلٌ عربي
صبّاً أتى الكونَ، غنّاهُ وأسكرَهُ
وشمخةُ الشّعرِ زلزالٌ من الغضبِ
ليغسل الكون عن كفّيه ثرثرةً
من الدّوارِ، وأفواجاً من الصّخَبِ
جنّيةُ الشّعرِ ربّته على يدِها
وليسَ كالشّعرِ مدعاةً إلى العجبِ
غادٍ إلى قلمٍ، من قلبه، أبداً
يستلُّهُ وجعاً في حومةِ النّوَبِ
يغطّه في نزيف الضّوء منتشياً
والرّعدُ مرتجفٌ، والليلُ في هرَبِ
كلّ السيوفِ نَبَتْ.. إلاّ قصائِدُهُ
فليمتطِ الحقدَ فرسانٌ من القصَبِ
ومجدليّا التي ما زال يحفظها
صوتاً يضيء على أوتار مغتربِ
غداً يعودُ قناديلاً مشرّعةً
ميناؤهُ الحلم، يا لبنان فالتهِبِ
هذا البعيني، حداثته، وطلّتها
من مطرحِ الشّمسِ، ما انهارت ولـم تغبِ
يوبيلُه الفضيّ بالعينين نكتبهُ
حتى يشعَّ غداً يوبيلُهُ الذّهبي
يا ساكن القمر الفضيّ، مدَّ يداً
للأرضِ، وازرع صدى الأحرار، وانكتِبِ
وعداً، يطوف على الدنيال، فإن سألتْ
تجسّد الوعدُ عملاقاً على الهضبِ
نهراً من النارِ، نخب الشعر يشربه
دم الفداء.. فيحيّا ميّت العربِ
**
كي يتحرّر الضوءالنهار ـ العدد 724 ـ 24 تشرين الأول 1991تحبّ كما لا يحبّ العاديّون، وتكره كما ليس للكره وجود.
متواصلٌ في العلاقة الفكرية، لأن الفكر نتاج العقل، والعقل قياديّ في كلّ الحالات.
شاذّ على التقاليد، والشّاذّ على التقاليد قاعدة للثورة عليها. ومن الشذوذ ما يمتحن الصبر، حتّى إذا أعيته الحيلة انتفض الصبر، لئلاّ يصير الشذوذ فعل ارتداد لتخريب العقل.
في درب القمر أنت، وكل شيء حولك يضحك مع مطالع الضوء. خميرة التراب ذات نكهة سحريّة تلفّ الكون، وبينك وبين المدى تتأبّط الريح خطوات الآتي من الأرض إلى السماء، على أجنحة الشعر، تقطر لهباً إنسانيّاً في زمن ينبش خطوط النار. التراب هنا هو الأصل، هو الحركة والسكون، الولادة والموت. هو كل مدلولات الحياة، المطمئنّة والقلقة، الآمنة والموجوعة، المحترقة والمنبعثة من رمادها فينيقاً جديداً يتحدّى الموت.
الذي يفتعل الضجّة يدهشه الصدى، فيعلن عصياناً مدنيّاً، وتقوم الضجّة المضادة، فيتحوّل العصيان إلى انتفاضة تقتلع السوس والعفن وتهزّ العصر. أوَ ليس الحريق دائماً من عود كبريت؟
وإذا لـم يكن مسموحاً أن تشعر، أو تحكي، أو تثور، أوَ ليس مسموحاً أن تبكي، أو تتأمّل، أو تتمنّى؟ أم أنّ المسموح فيه، في زمن النظام المتسلّط، أن تحني رأسك وتتبع بلا إحساس وبلا كرامة، أو أن تنفجر أنت وكرامتك، فتخلع صاحبك، وأنا أخلع مَنْ خلعت وأثبّت صاحبي؟
بعض التساؤل سخافة، وبعض السخافة حيرة تسعى إلى الحقيقة، فتتجذّر في التاريخ نبوءة، إن حيت تقتل، وإن قتلت تحيي. شرّ ما في صيرورتها أن تتلبّس الطهارة الماديّة، وتمارس التعهّر الروحي.
هنا في درب القمر، ينعس القمر أحياناً، فينام غطّة على حافّة الطريق، يتوسّد شيئاً من ذاته، وتخاف عليه غيمة عابرة فتعطيه، بشكل الإعارة، بعض دفئها وبعض بِلالها. وإذا كان الخوف قيداً، فكيف الخوف من الخوف تراه يكون؟
النسوة الحاملات الطيب، أو الشرّ الذي لا بدّ منه، كالعين العاشقة تشلح على كلّ مفرق سلّة ورد، وتقطف من كل نسمة شمّة عطر.
والرجال ـ ولو تعذّروا ـ يسلقون الانتصار بيض عيد في قفّة الشرق، الذي تحوّل كلّه إلى قصور من قشّ خلف عاصفة الصحراء.
والأطفال ـ على براءتهم ـ يتسابقون إلى قالب الحلوى، الذي كثيراً ما يكون قنبلة عنقوديّة في قرص الشمس، للوصول إليها، يتسلّقون شعراً صاغته الجنّ مشكاك زهر، تسحر رائحته، وتؤذي أشواكه.
ما هـم أن تدور الأرض حول الشمس، أو أن تتكمّش الشمس بحدود اللـه. تنتهي دورة وتبدأ دورة أخرى. تبدأ كلّ الأشياء وتنتهي جميعها، وتتحوّل المناجاة إلى مزامير، فلا يعود باقياً إلاّ اللـه والشمس.. والإمام عليّ، حضوراً شعرياً مميّزاً يغسل وجع العقل، ويترجم في الأحداق حلماً دائـم الحياة.
ويتقدّم الحلم على الحقيقة في تعابير وترانيم ترتّب المُثُل والقِيَم الإنسانيّة في منزلة الألوهة، وتبدو معها، ببساطة، الشفافيّة الشعريّة مؤطّرة بإطار العصبيّة التي ترى في الإنسان أسم الموجودات على الإطلاق.
وتطول رحلة الحلم في لغة عاتية أنيقة، تتقن فنّ الكلمة وفنّ الصورة، فتنجلي الحقيقة في رفاهة شعريّة، ارتفعت من الحدّ الأدنى للصناعة والتكلّف إلى الحدّ الأقصى من العفويّة والإبداع، تتكيّف مع السليقة بما تعايشه وتعانيه صحوة العقل الطالع من العاصفة، عفويّة فيها دلالة واضحة لإرضاء الوجدان الأدبي، لا لصبّ الزيت على النار وإذكاء شهوة التنين المتربّص بشواطىء الأيام.
أما لماذا كانت مناجاة علي، وهل تقرأ فيها حسّاً طاغياً لمحمد عبدو ومحسن الأمين والأمدي والعقّاد وعمر فرّوخ وجورج جرداق، أم أنها مجرّد رجاء لا يزال نائماً في بال الزمان؟
في رأيي إن شرايين الضوء المنسدّة منذ الفخّ الذي أطبق على آدم وحوّاء، ومنذ سفينة نوح وأسطورة أرارات، ومنذ الفتح حتى اليوم، تبقى هذه المناجاة للشاعر شربل بعيني دعوة للتصالح مع النفس ومع اللـه، لتتفجّر الشرايين ويتحرّر الضوء.
**
قرف شربل بعيني استحقاق يصلح ولا يؤذيالنهار ـ 22 تموز 1993ماذا يقول الحرف في الشفتين إن قال الدم؟
لغة الدم هي أكثر اللغات بلاغة، وصوت الجرح هو أشدّ الأصوات دويّاً، ويبقى الاستنكاف عن الكلام، حيال ما يهدّد وجودنا ويدمّر حياتنا، تآمراً على الدم الذي ليس ملكاً لنا، بل وديعة الأمة فينا، ودعوة تلحّ على نكء الجرح واستمرار النزف حتى تتعطّل فينا كل مقومات الحياة. فالسكوت عن الجريمة، وإن من فضّة، جريمة، والتصدّي للعلّة بالمداهنة أو بالمراهم والمسكّنات، يزيد من الأوجاع والمصائب والنكبات التي لا ينفع معها الصبر الأسطوري. وإذا كان آخر العلاج الكيّ، فإن أفضل الكي سيف النار.
وأن تقوم ضجّة ما حول عمل أدبي، هو دليل عافية ووعي في جاليتنا، التي كثيراً ما تتهم بالتلطي حيناً، وبالتكاسل وإهمال القضايا الفكريّة أحياناً. وأعتقد أن أمر هذه الضجّة يعود إلى سببين اثنين: الأول أهميّة هذا العمل الأدبي، والثاني، اهتمام ويقظة المتلقي، الذي هو في هذه الحال الجالية.
إما أن تتحوّل الضجّة عن ماهية العمل إلى قشوره تارة، وإلى صاحب العمل طوراً، شكلاً ولوناً ولباساً، لا الزبدة التي فيه، ولا النكهة التي يوفّرها، فهذا في غاية السخافة، وفي منتهى الاستهتار بالمكتنزات الفكريّة.
وأما الشعر، فكل واحد منّا يقرأه ويفهمه على طريقته الخاصّة، انطلاقاً من مستواه الثقافي، ويتذوّقه وفقاً لمناخه النفسي. وإذا كانت عين الحبّ عمياء، فإن عين الحقد جامدة كالمومياء، يبقى أن في الحبّ فضائل لا تعدّ ولا تحصى، وفي الحقد فضيلة واحدة "إذ يبدأ بصاحبه فيقتله أوّلاً". وفي هذا الصدد يقول م. ل. كينغ:
Hate distorts the personality and scars the soul, it is more injurious to hater than the hated
وقصيدة "قرف" للشاعر شربل بعيني نالت نصيباً وافراً من الأخذ والردّ، كما نال صاحبها نصيبه من الاغتياب والتجريح. ولو أن شاعراً غير شربل قد كتب ونشر هذا الـ "قرف"، لما حدثت هذه البلبلة، ولما كان لصاحبه أن يتلقّى كل هذه السهام مرّة تحت ستار المحبّة، ومراراً تحت ستار الغيرة على التربية والأخلاق. فإذا كان المقصود شخص شربل بعيني، فهذه قضيّة تخصّه دون سواه، ولا أظنّه في حاجة إلى من يقف في جانبه ويدافع عنه. وإذا كانت قصيدة "قرف" هي المقصودة، فإني مع القصيدة، وأتبنّاها في كلّ مفرداتها وصورها، وفي كلّ معانيها ومدلولاتها، ذلك لأنها قيلت ونشرت وصارت ملكاً لي ولكل قارىء سواي، ولا أرى مخالفاً للمنطق، ولمفهوم الحريّة، أن يقف غيري موقفاً سلبياً منها، فينفتح باب الحوار على مصراعيه.
"قرف" قصيدة واقعيّة معبّرة، ترفض الانحلال والانحطاط والانجرار والارتهان، تجسّد النقمة على المفاسد والمساوىء والمثالب، وتتجاوب مع شرائح واسعة من المجتمع في تذمّرها من "التدهور" الأخلاقي، وفي انتفاضها على الاستغلال والإستلشاء وثورتها على التعسّف والجور. ثـم إنها ليست خارجة عن المألوف من القول الذي غالباً ما نردّده جميعنا في أحاديثنا ومجالسنا، فكاهة لاذعة ونقداً إصلاحيّاً ينزل كحدّ السكين، على مكامن الوجع والأذية. السرّ في "قرف" أنها انتزعت برفير الشوك عن ساحتنا العامة وغمرت هامتها بإكليل الغار.
المؤسف المضحك أن يستفرد بعضنا في القصيدة ألفاظاً معدودة، ويعتبرها نابية ومعيبة وبذيئة، ولو عدل هذا البعض لتناول المقطع ككل لتنكشف معانيه ومغازيه وأبعاده، فيتدارك لسانه اللوم، ويدرك آنذاك أنها كلها ألفاظ وأمثلة شائعة في لغتنا وفي كل لغات الأرض، ولا يمكن نكرانها. فلماذا إذن نعيب على الشعر، أو على الشاعر، استعمالها، ونحن نلجأ إليها في مجالات الترفيه والتنكيت والامتعاض، وفي سياق التنفيس عن الضغوطات النفسيّة؟
يبدو لي أننا لـم نقرأ ولـم ندرس، أو أننا نتجاهل ونتناسى، فهل أعيد إلى الذاكرة ما قاله عمر الزعني، وآميل مبارك، وآميل لحّود، أو ما كتبه ابن الرومي وجرير والفرزدق وأبو النوّاس والأخطل الصغير وغيرهم كثيرون؟ فلماذا لـم تقم القيامة على هؤلاء، أو أننا نقيسهم بغير القياس الذي نقيس به شربل بعيني؟ أم ترانا نبرّر أن ما كان يحقّ لهؤلاء وأولئك في الأمس، لا يحقّ لشربل اليوم؟
وماذا نقول عن أدب الخلاعة والإباحيّة، ولغة اللواط والسحاق وأفلام الجنس، وكل ذلك معروض "على عينك يا تاجر" في المكتبات، وعلى الأرصفة وشرائط الفيديو، من غير أن يرفّ جفن أو يعلو صوت.
ترى هل صارت غيرتنا على التربية والأخلاق مزاجيّة، أو تعبيراً عن حقد معيّن في مساحة معيّنة وفي منحى "ما يروق لغيرنا لا يروق لنا"؟
ثـم ماذا لو استعان شربل بعيني بكلمات فعص وبرّاز وبرّان، وهي فقط مغطّاة بأقلّ من ورقة التين، ولا تؤدّي المعنى المطلوب، أو ترسم بالضوء الصورة التي يكتنفها الظلام؟
قليل من الحياء، ومن الذوق.. صحيح، ولكن هل في وظيفة الحياء التستير على ليل الفحشاء؟ وهل من طبيعة الذوق التعتيم على عمليّات الفجور والظلم والعبوديّة؟
ومتى كان الحياء والذوق أن لا نكون أكثر صراحة ووضوحاً وواقعيّة مع الذات ومع الغير، من كل أدوات الفذلكة ومظاهر الأرستقراطيّة الفارغة من كل مضمون؟
ثـم من منّا تسربل في السرّ وفي العلانية، في الليل وفي النهار، مع نفسه ومع الناس، بهذين الحياء والذوق، ولـم يردد كلاماً "أوطى من الزنّار”؟
من منا بلا خطيئة فليرجم شربل بعيني بحجر
وإذا كانت حجّتنا أننا لـم نكتب ولـم ننشر ما قلناه ونقوله على الملأ، فإن شربل قد كان أكثر صراحة وأكثر جرأة وأكثر صدقاً، فقال ونشر ليعبّر عن المأساة التي نعاني منها، وليصوّر لنا الحالة الزريّة التي نتخبّط فيها بفضل "حيائنا وذوقنا.
القول بأن الحريّة هي حريّة الحلم والوهم هو قول خيالي لا قيمة له، لأن الحريّة هي أن نتجاوز الزمن الذي يقيّدنا، وأن نكسر السكّين الذي يذبحنا، ونلغي الفضيحة التي تلحق بنا اللعنة الأبديّة. والذي يحاول أن يغتصب هذه الحريّة كمن يحاول التستّر على الفضيحة ليجمدنا في الزمن، ويسلّط السكين على أعناقنا.
وفي الدفاع عن هذه الحريّة نحدّد اللياقة في الغاية ليستقيم الأسلوب، وتنتظم الوسيلة. والذي يدخل في لياقة الإنسان ليس قرب الكلمات من الكياسة، بل من الوضوح والوجدانيّة، لتؤدّي مهمّتها، وتجسّد دورها، وإلاّ صار كل حديث عن اللياقة مجرّد تمثيل وتهريج وتعهّر.
والشاعر لا يسعى إلى الكلمات فيستعين بها، بل هي تأتيه جلية مختارة، ولا يفتّش عن الصور ليزيّن واجهته، بل هي تغزو مخيّلته كالبرق، وترتسم بين يديه كالأسطورة، فإن تدمّرت هذه الحقيقة بطل الكبريت أن يكون سبباً للنار.
لنحمل على الشعر، وعلى مهمّته، فنحن لا نأتي كفراً في ذلك، شرط أن تكون حملتنا بعيدة عن التشنّج والغرض والهوى.
ولنكفر بكلّ الأفكار والمفاهيم، شرط أن يكون هذا الكفر رديفاً للإيمان الذي يقول لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هنالك فينتقل.
ولنناور، إذا شئنا، بالذخيرة الحيّة، لا بفقاقيع الصابون، أو قنابل الدخان، عملاً بحريّة الرأي، شرط ألاّ نتمسّك بدور الحريّة فيما يختصّ بنا، ونلغي هذا الدور فيما يختصّ بغيرنا.
في هذه المبادىء وجدت "قرف" شربل بعيني استحقاقاً أدبيّاً يصلح ولا يؤذي، ويترجم صوت الدم لوقف النزف وتحرير المشاعر من عقدة النقص.
**
يا عيب الشومالعالـم العربي ـ العدد 31 ـ 29 حزيران 1993يا عصافير لبنان في مدرسة سيّدة لبنان
إذا كان لكل عام شجرة، فشجرة عام 1993 كانت لكم بكلّ ما فيها من بهجة وجمال وروعة وأناقة.
وإذا كان لكلّ موعد ذاكرة تاريخيّة، فإن مساء الثامن عشر من حزيران من هذا العام هو ذاكرة أحلى المواعيد، وأغلاها على الإطلاق.
ففي ليلة واحدة حوّلتم زمن السقوط والانهيار إلى فلكلور فكاهي لاذع، يضحك إلى حد البكاء، ويبكي إلى حدّ الندامة. وعلى حد السكين طرحتم ميوعة الموقف لينزف حتى اللهيب، فتصير الهشاشة رماداً، وأصداء في الريح تمسي اللامبالاة.
وفي "يا عيب الشوم" من تأليف وإخراج الشاعر شربل بعيني وتمثيلكم، كنتم الصوت الهادر الهادي في بريّة الجالية وأدغال الاغتراب، والجرح المضيء الذي يغسل عار الأيام عن شجر الغابات. رائعة كانت أدواركم، ولقد أدّيتموها بأمانة وثقة وشجاعة وإتقان.
حركات اليدين، نبرات الصوت، الخطى، تضرب المسرح فتزلزل المكان. نظرات العينين المتفحّصة حيناً والساخرة أحياناً. ملامح الوجه في إشراقها وفي عبوسها. المظاهر والملابسات المعجونة بالحيرة والهمّ والحلم. لكنة اللهجة واهتزاز الأوتار الصوتيّة. كلّها كانت إشارات واضحة وجريئة في إعلان الموقف والتصدّي للتيّارات المدمّرة، والإرادات المستبدة، حتى لكأنها صارت عناوين بارزة لمأساتنا الاجتماعيّة، كل واحد منّا فيها قاتل: قاتل لأنه مسؤول، وقتيل لأنه ضحيّة.
الجو مشحون بالتناقضات والأنساق والمفاهيم الغريبة أو المغلوطة. والمد الحضاري يخلق مناخات ضاغطة على مناعات، بعضها ضعيف وبعضها مفقود تماماً. الهوة سحيقة ورهيبة بين جيل البناء وجيل الخراب.
الأمراض التي يأكل بعضها بعضاً في العائلة الواحدة، أو العائلات المتعدّدة، قضايا ومشاكل البيت الذي يخلط بين الحريّة والفوضى الأخلاقيّة، بين وجع العقل وتمرّد الفضيلة، وبين الانحلال المناقبي والتزحلق على قشور النزوات والرعونات التي تنتاب عمليّة التطوّر، أو بين المحافظة على التراث الحضاري وركوب حصان الدخان لمواكبة الفجور الغرائزي. هذه وغيرها تجسّدت في تمثيلية "يا عيب الشوم"، حتى إذا ما شعرت أنك تقفز من واحدة إلى أخرى، ومن دور إلى دور، فذلك لأن هذا المسلسل الشيطاني الذي أحدث انقلاباً تدميرياً في حياتنا قد ترك بصماته ولوثاته على وجودنا. هذا المسلسل يفرض هذه القفزات المتوترة مرة، والمتوثبة مراراً، تشدّك إليها وأنت تضحك وتهزأ، وتأسف وتتمزّق، حتى لتكاد تخرج من دائرة التمثيل إلى حركة الممارسة الواقعيّة.
ومن البوكرماشين إلى سباق الخيل وطاولات الميسر، إلى المثالب التي تدمّر حياة الأفراد والجماعات، ومن صبية الأزقّة إلى روّاد العلب الحمراء، إلى الأدوات والقنوات التي تتعاطى المخدرات وتروّج تجارتها، إلى الذين يركبهم الكسل والغشّ والطيش والاحتيال، فيصيرون عالة على الضمان الاجتماعي وعلى المجتمع. ومن عمليّات اللطش والتزوير والانتحال إلى تهميش الدور الإنساني المسؤول، وتكوين البؤر الفاسدة الساعية إلى الاستغلال والرطانة والفحش. هذه النقائص التي عرضتها التمثيليّة والتي نعاني منها، لا تشوّه سمعتنا فقط، بل تعطّل وتلغي دورنا الحضاري أيضاً.
ومن ازدواجية الشخصية إلى سياسة التعهّر والتباهي الفارغ، إلى الصحافة، فالأدب، فالشعر، فمجموعة الأنا.. نيّات الحقيرة التي تتعفّن فيها حداثتنا الاغترابيّة، وتتوشّح بالحقد الوثني، وبالنقمة والحسد والوهم الباطل، تحت ستار كثيف من الإدعاء الرخيص المتأقلم مع موجات انعدام الذات الإنسانيّة لزرع ذات غريبة الأطوار والمناخات في جسم اصطناعي ملتحم بالنزعات الفرديّة والعصبيّات الملتويّة والمزيّفة. إنه وجه من وجوه الغرابات المتسللة إلى ثقافتنا العريقة، نغسله بالخلّ ونغذّيه بالزؤان، ونحسب أن الخل خمر تفرح قلب الإنسان، وأن الزؤان سنابل غنيّة بالثروة والغلال.
ومن "مشاهير" البلابل والحساسين، والغربان والشحارير، التي تضجّ بها وتضيق القاعات والمطاعم والملاهي، إلى بنات وضحايا الهوى التي طالت بيوت الفقراء ومتوسطي الحال، كما طالت البيوتات المرموقة والكبيرة، حتّى تساوت جميعها في المأساة ليصير كلّ صاحب "هاو ماتش دارلينغ" والداً لكل "ريما" الفالتة التي تفاجئه صارخة: "أنت وأمي وصّلتوني لهون.
أجمل ما في "يا عيب الشوم" التي قام بتمثيلها ثلاثمائة طالبة وطالب من الصفوف الابتدائيّة في مدرسة سيّدة لبنان، لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، أنها لـم تكتفِ بعرض شكلي لسلبيّاتنا، بل تجاوزتها إلى الردّ الإيجابي على كلّ خلل في تربيّتنا ونشأتنا، فتصبح العيوب والمساوىء والمفاسد مجرّد عاهات تصيب الأفراد، وهؤلاء الأفراد أنفسهم لا يمكنهم أن يصموا الانتشار اللبناني كلّه بما في نفوسهم من عار الصدأ والعفونة.
فإذا كان لكل عائلة قياس، فإن راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في مدرسة سيّدة لبنان في هاريس بارك هنّ عائلة لبنان المثاليّة التي لا قياس لها، والتي تغطي مساحة الكون.
أكاد أشكر الشاعر شربل بعيني وأهنّئه.. لا.. أوسع من الشكر وأكبر من التهنئة شربل. فأكتفي بتوجيه تحيّة أدبيّة.
**
جبيل.. جئتكيوم تسليم الآنسة ريتا بواري جائزة شربل بعيني في مدينة جبيل اللبنانية.
آنسة ريتا
يطيب لي أن أقدّم لك باسم شربل بعيني، صاحب هذه الجائزة، جائزة الشاعر شربل بعيني، وأن أشكر المعهد، معهد الأبجديّة في جبيل، الذي رعاك وتعهّدك، فتفوقت وبرهنت بالاجتهاد المميّز، وبالعقليّة الأخلاقيّة الجديدة، شعار هذا العصر، وبالنتائج الباهرة التي أحرزت، أنك أهل لهذه الجائزة، وجديرة بها.
إنّ صديقي وأخي الشاعر شربل بعيني معروف بأنه شاعر الغربة الطويلة، وأنا أطلق عليه المحبّة والآلام، المحبّة التي تشترط ولا تتباهى، والآلام العظيمة التي تنتظر كلّ ذي نفس كبيرة.
أنتم في الوطن المقيم تمارسون على مستوى الإنسان فعل هذه المحبّة، وتدفعون ضريبة الآلام العظيمة في سبيل الحياة والحريّة والكرامة. ونحن في منفانا الاختياري رسل محبّة، وشهداء آلام، نعاني مما تعانون، ولكننا نسير طريقنا الطويل، يعزّز مسيرتنا الإيمان، ويهزّنا شوق حيّ لننشق فوح دمنا في تراب الوطن المبارك.
آمنوا بوجود هذا الوطن. حافظوا عليه، واحفظوا رسالته. اعملوا لديمومته في نطاق الحريّة والسيادة والاستقلال. عمّروه إنساناً إنساناً، وحجراً حجراً، ودرباً درباً، لتلتقي مجهوداتكم في دروب بقائه. إنه أحلى أوطان الأرض وأغلاها.
وأنت يا عزيزتي ريتا، أكرّر لك تهنئتي وتمنيّاتي القلبيّة الطيّبة، راجياً لك اضطراد النجاح، ومزيداً من التفوّق والإبداع. ولا تنسي، أنت ورفيقاتك، أن تستمرّي في العمل بتوجيه الدكتور عصام حدّاد، فهو صورة مصغّرة عن الوطن الكبير بالمحبّة والتفاني والعصاميّة، التي لا تعرف الحواجز والحدود.
ولكم جميعاً من الشاعر شربل بعيني، ومن رابطة إحياء التراث العربي في سيدني، ومني شخصياً أطيب التمنيّات، لتحقّقوا تطلّعاتكم الكبيرة ثقة بالنفس، وإيماناً بالحياة الحرّة الراقية، فتكونوا أهلاً بالرسالة، رسالة المعرفة التي حملتها جبيل إلى العالـم، منذ فجر التاريخ وصباح الدنيا.
..
جبيل جئتك في عينيّ عاصفةٌ
من اللّهيبِ، وشوقٌ عانقَ الشّهُبَا
مدّي يديك بساط الضوء وامتشقي
سيفَ الرياح، وخلّي اللومَ والعتَبَا
ما زلتِ ملعبَ أحلامي، وأجنحتي
يضفي عليها الهوى الأمجادَ والحقُبَا
أنا الذبيحُ، يمرّ الحبّ من فرحي
ومن صدى وجعي الأضواءَ والسّحُبَا
زرعت في وهجها صوتي وفوحَ دمي
وفي شذاها السّنا والعطرَ والذهَبَا
أطوف فيها وجرحي لا يفارقني
كأنما الجرح تحكي نارُه الغضَبَا
وما تعبت.. ولكن كاد يقتلني
فيها انسجامي، وحبّي يتعبُ التّعَبَا
مرّي يديك على رئتيَّ واشتعلي
لا يحصد النّارَ مَن لا يزرع اللَّهَبَا
يا لهفة المجد أين المجد في وطنٍ
يطلِّق اللـهَ والإنسانَ والكُتُبَا
وأين أين العلى والشعب منسحقٌ
يطأطىء الرأس حتّى يلحسَ الذّنَبَا
وأين أين تراث الفكر ملحمة
من النضال تهزّ الوعيَ والأُدُبَا
لا يعرف العزَّ مَن في الذّلّ موقعه
أو يعرف اللـهَ مَن لا يعرفُ الأَدَبَا
جبيل، يا شغفاً في القلب أزرعه
ويا ارتياداً على الآفاق مُلتَهِبَا
العار فينا.. وطعم العار في دمنا
فهل نلوم السِّوى عنّا أو الغُرَبَا
مرّي على دمنا يوماً بعاصفةٍ
تزوبع الفكرَ حتّى يبدعَ العجَبَا
وزلزلي الأرض فالزلزال أجمله
أن يخلق الوعي لا أن يتركَ الخِرَبَا
أنا الغريب صداه لا يزال هنا
وفي هنالك صوت الرعد مصطخِبَا
أنا الغريب وفي المنفى صدى وجعي
وفي دروبك أطوي الموت مرتعِبَا
طلّي على أفقي المفترّ وانتصبي
وجهاً يضيء فيطفي الليل والشَّغَبَا
وسمّريني على أرضي وفي وطني
كما المسيح رسول الحبّ قد صُلِبَا
يا مصدر الحرف حيّي الشعرَ وانتفضي
ففي ترابِك أحلى الشعر قد طربا
بنت الشواطي على قدميك قد ركعت
كلّ العصور، وفاض النورُ وانسكبَا
أتيتك اليوم من سيدني وفي عدمي
شوق يهزهز منّي القلب والهُدُبَا
ومن تراثك في كفيَّ بدء غدٍ
"بالأبجديّة" سوّى المجد والتهَبَا
يقوم لبنان إن قمّت، وإن نضبت
فيك المعاني، فكلّ الكون قد نضَبَا
**
مرحباداعبِ الرّيحَ حولَنا يا مساءُ
ههنا الشّمسُ والظَّلامُ السّواءُ
ولدتْ عندنا النّجومُ وطافتْ
قبل أنْ كانتِ السَّما وكانَ الفضاءُ
سائلِ الدَّهْرَ بيننا من زمانٍ
شهقَ الوعدُ واستجابَ الوفاءُ
واسْألِ الحُلْمَ خلفَ كلّ شُعاعٍ
زغردَ الحبّ واشرأَبَّ الرَّجاءُ
يتسلّى في كفِّنا الغَيْمُ لَمّا
يسرق الصّيفُ لونَهُ والشِّتاءُ
كلّ أحبابنا ربيعٌ مضيءٌ
سكر العطرُ عندهم والهواءُ
مرْحَبا يا سفير، يا طَوْدُ، يا مَجْدُ
يومَ صارتْ لمجدنا كبرياءُ
مرحبا الأصدقاءُ يومَ تنادوا
وتخلّى عن عصرنا الأصدقاءُ
بعض أمجادنا ابْتَناها رجالٌ
زنَّرَ الوعيُ فكرهم والبَهاءُ
وتُطِلُّ النساءُ نوراً علينا
أيّ مجدٍ ما عمَّرتهُ النِّساءُ
فالشِّفاهُ المطيَّباتُ العذارى
في هواها تبارَكَ الأنبِياءُ
كانَ قَبْلاً نداؤنا عاطفياً
ههوَ اليومَ يا سميرةُ اسْتِثْناءُ
هذه سهرةٌ من العمرِ عندي
وستبقى ما يستمرُّ البقاءُ
كأْسها الحبُّ ، والشِّفاهُ نَبيذٌ
فوقَ عَيْنَيْهِ يَسْتَحِمُّ الضِّياءُ
والعريسُ الحبيبُ مَشْقَةُ شِعرٍ
تَتَزَيَّا بحبِّهِ الأسْماءُ
إنْ تكنْ عندَهُ القصيدةُ زَهْواً
فالحكايا أميرةٌ حسناءُ
كلُّ شِعرٍ لا يعرفُ الحبَّ مسخٌ
وثنِيٌّ يضجُّ فيهِ الغباءُ
والَّذي شِعرُهُ كشَرْبِلَ يَحكي
حبَّ لَيْلَى ، تُضيءُ فيهِ السَّماءُ
**
أم أنطوانوالدة الصديق الشاعر شربل بعيني(حضورها في إشراقة الوجدان أقوى من غدر الزمان)جريدة الشرق ـ العدد 14، 14 تموز 1999حَمَلَتْ حُلْمَها، منَ الشّرقِ جاءَتْ
كفُّها الأَرْضُ والْعُيُونُ السَّمَاءُ
وَعلى الغَرْبِ رَعْشَةٌ مِنْ إِباءٍ
تَتَماهَى فِي دَرْبِهِ الْكِبْرِياءُ
وَمَشَى صَوْتُها على الغَيْمِ دِفْئاً
يَتَمَشَّى فِي جانِحَيْهِ الضِّياءُ
فإِذَا القلبُ كوكَبٌ واسْتفاقَتْ
في يَدَيْهِ الْحِجارَةُ الصَّمَّاءُ
تَعِبَتْ دُونَها السّماءُ، ولمّا
أعَيَتِ الأرض، فالخُلودُ البَهاءُ
مثْلَما تَرْحَلُ الملائِكُ طارَتْ
واستَقَرَّتْ حَيْثُ اسْتَقَرَّ الرَّجاءُ
ليسَ في الموتِ ما يَطَالُ وجُوداً
مُطْلَقَ الْبُعْدِ، إِنْ قَضَى الأنبياءُ
شَرَفُ الموتِ أَنَّهُ ليسَ فِينَا
ذِكْرَيَاتٍ أَتَى عَلَيْها الْفَناءُ
فَتَرَكناهُ صاغراً حيثُ شِئْنَا،
والَّذي لا نَكونُهُ لا نَشَاءُ
سَكْتَةُ الْقَلْبِ أَمْ سُكُوتُ زَمانٍ
أَفْرَغَتْهُ مِنْ وَهْجِها الأَشْيَاءُ
صارَ في مِثْلِها السَّماواتُ تَحْكي
كبرياءً، حتّى يَطيبَ الْعَزَاءُ
هِيَ أَسْمَى مِنَ الزَّمانِ، ونحنُ
غُرَباءٌ، أَيَّامُنا غُرَباءُ
كَفْكِفوا الدَّمعَ فالجِراحُ أَضاءتْ
تَمْسَحُ الْحُزنَ كَيْ يَرَى الأَحْيَاءُ
هِيَ أُمُّ الْجَمِيعِ في كُلِّ قَلْبٍ
مِنْ سنَى الطِّيبِ شُعْلَةٌ خَضْراءُ
إنْ نَشَدْنا لِكُلِّ إِسْمٍ مقاماً
تَتَفَيَّا فِي ظِلِّها الأَسْماءُ
قَطَفَتْها مِنْ كُلِّ نَجْمٍ شُعاعاً
بارَكَتْهُ القِدِّيسَةُ الْعَذْراءُ
وستَبْقى جُفُونُنا عالِقاتٍ
حَيْثُ حَطَّتْ، وحيثُ مَرَّ الْهَواءُ
لَها في كلِّ خاطِرٍ مُسْتَنيرٍ
صُورَةُ الْحُبِّ، والإطارُ الْوَفاءُ
هذِهِ أُمُّنا، ولَوْ أَنَّ فينا
بَعْضَ ذِكْرَى، وجُوهُنا الأَبْناءُ
**
بحيرة الضوءمقطع من قصيدة أُلقيت في حفل تسليم (جائزة جبران) 1990ألمجدُ يعرفُ أهلَه وعرينَهُ
وعلى جدارِ صباحِهِ ينسابُ
شبّاكُهُ ملهَى الشَّذَا، وعلى الرُّبَى
أَلَقٌ يزغردُ ضاحكاً وسرابُ
وعلى قصائده تزركشُ وردةٌ
فستانَها، والحُورُ، والأطيابُ
تسنسبُ اللونَ الذي تشتاقُهُ
وبدون "شربلَ" ما لَها استنسابُ
هذا "بعيني" شعرُهُ وحنينُهُ
وترٌ يغنّي للهوى وربابُ
**