
أَيُّهَا السيِّدَاتُ والسَّادَة..
أَيُّهَا الْمُغْتَرِبُونَ الْكِرَام.. يا أَبْنَاءَ الأَرْضِ الطَّيِّبَة..
هَا هُوَ الْجَنُوبُ اللُّبْنَانِيُّ يَفْتَحُ الْيَوْمَ ذِرَاعَيْهِ لاسْتِقْبَالِنَا..
هَا هِيَ الأَرْضُ الْمُحَرَّرَةُ تَدْعُونَا اللَّيْلَةَ لِلْمُشَارَكَةِ بِتْكِرِيمِ مَنْ كَرَّمَ الأَرْضَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالأَحْرَار.
أَمَا لَيْسَتْ رَابِطَةُ الْجَمْعِيَّاتِ اللُّبْنَانِيَّةِ فِي السّانْت جُورْج، أَي الْقِدِّيس جِرْجِسْ، تُمَثِّلُ ذَلِكَ الْجَنُوبَ الْبَطَلَ، الَّذِي مَحَا الذُّلَّ عَنْ جَبِينِ أُمَّتِنَا الْعَرَبِيَّةِ، يَوْمَ ارْتَفَعَ بَيْرَقُ نَصْرِهِ، وَارْتَفَعَتْ هَامَاتُنَا بَعْدَ إِذْلاَل؟.
وَهَا هُمْ أَبْنَاءُ الْجَنُوبِ يَفْتَحُونَ الْقُلُوبَ قَبْلَ الدِّيَارِ لِتْكِرِيمِ شَاعِرٍ شِمَالِيٍّ أَهْدَتْهُ "مِجْدَلَيَّا" لِلْكَلِمَة، لِلْغُرْبَة، لِلإِنْسَانِيَّة، وَلِلْمُعَذَّبِينَ فِي الأَرْض. ولأنَّ الْجَنُوبَ يَضْرِبُ، دَائِماً وَأَبَداً، ضَرْبَةَ مُعَلِّمٍ، كما يَقُولُ الْمَثَلُ الشَّعْبِي، هَا هُوَ يَضْرِبُ عُصْفُورَيْنِ بَحَجَرٍ وَاحِدٍ، فَيُعَيِّنُ تَكْرِيمَ الشَّاعِرِ شَرْبِل بْعَيْنِي فِي الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ شُبَاط.. أَيْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي رَأَى فِيهِ النُّورَ عام 1951.. وَمَنْ يَحْسُبُ جَيِّداً، يُدْرِكُ أَنَّ الشَّاعِرَ سَيُطْفِىءُ اللَّيْلَةَ شَمْعَةً ذَهَبِيَّةً فِي عِيدِ مِيلادِهِ الْخَمْسِينْ. أَطَالَ اللـهُ بِأَعْمَارِكُمْ لِيُطِيلَ بِعُمْرِ شَاعِرِنَا الْمَحْبُوب.
منذُ عِدَّةِ أَشْهُرٍ مَنَحَ الْمَجْلِسُ الْقَارِيُّ لِلْجَامِعَةِ الثَّقَافِيَّةِ فِي الْعَالـمِ ـ فَرْعُ أَمِيرْكَا الشِّمَالِيَّةِ، الَّذِي يَرْأَسُهُ الأَدِيبُ الْمَعْرُوفُ جُوزِيف حَايِكْ، لَقَبَ "أَمِيرِ الأُدَبَاءِ اللُّبْنَانِيِّينْ فِي عَالَـمِ الإِنْتِشَارِ لَعَام 2000" للشّاعِرِ شَرْبِل بعيني. فَاهْتَزَتْ قُلُوبُنَا فَرَحاً، وكَيْفَ لا تَهْتَزّ، وَمَنِ اخْتِيرَ أَمِيراً للأدَبِ الإِغْتِرابِي فِي عَالَمِ الإِنْتِشَار، هُو وَاحِدٌ مِنَّا، مِنْ جَالِيَتِنَا، مِنْ مَهْجَرِنَا الأُسْتُرالي.. هُوَ وَاحِدٌ مِنْ رُسُلِ الْحُرِيَّةِ عَلَى الأَرْضِ. فَفِي كُلِّ حَرْفٍ كَتَبَهُ نَجِدُ الْحُرِيَّةَ تَشْرَئِبُّ.. تَنْتِفِضُ.. تَثُورُ.. غَيْرَ عَابِئَةٍ بِمَا قَدْ تَجُرُّهُ مِنْ مَشَاكِلَ لِشَرْبِلْ.
أريدُ أَنْ أَسْأَلَكُمْ سُؤالاً بِسِيطاً: لِمَاذَا تَنَادَيْتُمْ لِتَكِرِيمِ شَربل بعيني، لَوْ لَمْ يَكُنْ صَوْتُهُ صَوْتَكُمْ.. وَصَرْخَتُهُ صَرْخَتَكُمْ.. وَقَصَائِدُهُ قَصَائِدَكُمْ؟.. إِنَّهُ شَاعِرُ قَبِيلَتِكُمْ الإغْتِرَابِيَّةِ، كَيْ لا تَنْسَوْا جَريِرَ والْفَرَزْدَق.. إِنَّهُ إِبْنُ غُرْبَتِكُمْ، كَيْ لا تَنْسَوْا وَطَنَكُمْ الْمُفَدَّى.. إِنَّهُ إِبْنُ وَطَنِكُمْ، كَيْ يَبْقَى لَكُمْ الْوَطَن.. إِنَّهُ إِبْنُ لُبْنَان.. وَكَفَى.
صَدَاقتي الْحَمِيمَةُ بِشَربل بعيني، عَرَّفَتْنِي بِهِ أَكْثَرْ.. حَمَلَتْنِي إِلَى عَالَمِهِ الْمَجْهُولِ، فَوَجَدْتُهُ كَعَالَمِهِ الْمَنْظُورِ.. تَقْرَأُ فِي عَيْنَيْهِ مَا يُخَبِّىءُ فِي قَلْبِهِ.. فشربلُ الشَّاعِرُ هُوَ ذَاتُهُ شَرْبِلُ الطِّفْلُ.. قُوَّتُهُ فِي بَرَاءَتِه.. وَجَمَالُهُ بِضَحِكَاتِهِ.. وَعَظَمَتُهُ بِارْتِفَاعِ صَوْتِهِ.. أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِل:
عَالِي صَوْتِي عَالِي
يَا وَطَنِي الْجَرِيحْ
عَمْ يِهْدُرْ بِاللَّيَالِي
اللِّي مْجَرَّحَه تِجْرِيحْ
وِيْخَرْطِشْ إِسْمَكْ صَورَه
عَ إِيدَيْن الْمَعْمُورَه
وِيْلَوِّنْ فِيك الرِّيحْ
ومَنْ غَيْرَ الشَّاعِرِ شَرْبِل بعيني يَقْدِرُ عَلَى تَلْوِينِ الرِّيَاحِ، وَتَسْخِيرِهَا لِمَصْلَحَةِ وَطَنِهِ الْمَجْرُوحِ لُبْنَان.
يَوْمَ عَلِمَ المُنَاضِلُ الْوَطَنِي الدكتور رِفْعت السَّعِيد بِاخْتِيَار صَدِيقِه شَرْبِل بعيني أَمِيراً لِلْكَلِمَةِ، أَرْسَلَ لَهُ فَاكْساً مُسْتَعْجِلاً مِنَ الْقَاهِرَة يَقُولُ فِيه: "لَـمْ يُضِفِ الْمَجَلِسُ القاريُّ للجامعةِ الثقافيّة في العالـم أَكْثَرْ مِنْ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِوَاقِعٍ وَاقِعِيٍّ، مُعْتَرَفٌ بِهِ مِنْ جَمِيعِ مَنْ يَعْرِفُونَ فَضْلَكَ وإِبْداعَكَ وَشُمُوخَكَ"..
وَنَحْنُ، مِثْلَ الدّكْتور رِفعت السّعيد، نَعْرِفُ فَضْلَ شَرْبِل بعيني، وإبداعَهُ وَشُمُوخَهُ، وَلِهَذَا دَعَتْنَا رَابِطَةُ الْجَمْعِيَّاتِ اللبنانيّةِ فِي السَّانت جورج، وَلِهَذَا لَبَّيْنَا دَعْوَتَهَا.. فَأَلْفُ مَبْروكٍ لجاليتِنَا بِإِمارَةِ الأَدَبْ.. وَأَلْفُ مَبْرُوكٍ لِشَرْبِل بعيني بعيدِ مِيلادِهِ الذَّهَبِيّ.
إِثْنَانِ اسْتَحَقَّا الإِمَارَةَ عَنْ جَدَارَة: شوقي القائل:
وَلِلْحُرِّيَّةِ الْحَمْرَاءِ بَابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
وَشَرْبِل القائل:
يَا طِفْلَ الأَرْضِ الْمُحْتَلَّه يَا فَجْرَ شُعُوبٍ تَتَأَلَّمْ
إِضْرِبْ.. إِضْرِبْهُمْ.. إِضْرِبْنَا فَالْكُلُّ بِحَقِّكَ قَدْ أَجْرَمْ
وَشُكراً لإِصْغَائِكُمْ...
**
مَن الأجرأ شربل بعيني أم البيرق؟كان بودّي أن أخصّص هذا المقال للإشادة بمسرحيّة شربل بعيني الأخيرة "يا عيب الشوم"، التي أطربتنا بتغريد ثلاثمئة بلبل من مدرسة سيّدة لبنان التابعة لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات ـ هاريس بارك.
ولكنّ الضجّة المفتعلة حول قصيدته "قرف"، التي نشرتها "البيرق" مشكورة، بتفنّن وإتقان، أعادا إليّ أيّام كنت أنشر، عن إيمان، قصائد شربل بعيني في جريدة "صوت المغترب" بنفس الطريقة المتقنة، التي تقرّب الشعر للمتلقّي، وتحبّبه إليه.. هذه الضجّة أجبرتني على الكتابة من باب المحبّة، لا من باب النقد وفرض الآراء والإستبداد والحسد والضغينة.
حين ألقى الشاعر شربل بعيني قصيدته الرائعة "قرف"، في أمسية تكريم المحامي محمود بيضون، بدعوة من جمعيّة أبناء بنت جبيل الخيريّة، أحسست أن القاعة ، على وسعها، قد ضاقت بتصفيق المعجبين المحبّذين المتأفّفين من الأوضاع الشّاذة التي وصلنا إليها، إن كان في بلادنا، أو في مهجرنا البعيد هذا.
وكم كانت فرحتي عظيمة، عندما سمعت الأستاذ جوزيف خوري يقول، بعد انتهاء الأمسية، إنه سينشر "قرف"، وسيعلن عنها قبل نشرها، وقد وفى الرجل بوعده.
ولكن، ماذا حدث؟
كل الذين تحت إبطهم مسلّة، كما يقول المثل العربي "هاجوا وماجوا"، وألهبوا الأشرطة الهاتفيّة على مدار السّاعة، بغيّة الأخذ بالثأر، متخفّين تحت ستار نفور بعض الكلمات المستعملة في "قرف". وإليكم شرح الكلمات التي لـم تستوعبها أدمغتهم:
ـ زُبَيْر.. اسم عائلة عربيّة شهيرة، عرف كيف يستغلّه الشاعر كي لا يخدش أذواق قرّائه، دون المساس برونق صورته الشعريّة.
ـ هشّ.. ومَن منّا لـم يقلها لحمار ركبه أيّام زمان، وتناساها عندما ركب "الترومبيل".
ـ نسّ.. اسم حيوان كريه الرائحة، استعان به الشاعر لتبليغ وتوضيح صورته الشعريّة، وما أكثر النسانيس بيننا.
ـ طُز.. وقد قالها فنّان العرب الأكبر دريد لحّام أكثر من ثلاث مرّات في مسرحيّة "صانع المطر". كما أن المصريين يقولونها للدّلع والمحبّة، وما أجملها في قصيدة شربل، لأن الذين شتمونا بها هم الحكّام، مصّاصو دماء الشّعب!!
ـ من برَّا ضروب يا خرَّا.. مثلٌ شعبيّ مشهور، لا يجهله إلاّ أعمى البصيرة والبصر. وكأننا لـم نحفظ من أمثالنا الشّعبيّة مثلاً واحداً، ردّده الأجداد والآباء والأحفاد، وسنبقى نردّده إلى يوم القيامة.
إذن، فثرثرة الحسّاد، دعاة المعرفة، المراهقين، مردودة إلى أصحابها. ومَن عاب على شربل بعيني نزوله إلى هذا المستوى من الشعر "المبتذل" حسب تعبيرهم، الإنساني الرّائع حسب تعبيرنا، نسي أو تناسى قصيدة المتنبّي، سيّد الشّعراء، في هجاء "ضبة بن يزيد الطرطبّة"، والتي كشف بها كل ما يخجل الإنسان من كشفه، ومن لـم يقرأ قصيدة المتنبي التي مطلعها:
ما أنصَفَ القَوْمُ ضبَّه
وأمّه الطّرطبّه
وما يَشْقى على الْكَلْبِ
أن يكونَ ابنَ كَلْبَه
والتي تفوق بروعتها، رغم إباحيّتها، جميع ما كتب المتنبّي من قصائد، لأنّها نابعة من "قرفه" الجارف، وتأفّفه من تلك الخنافس العالقة بذيل حصانه، بإمكاني أن أزوّده بنسخة عنها.
أخيراً، لا يسعني إلاّ أن أقول: إن جرأة "البيرق"، وجوزاف خوري بالذات، قد فاقت جرأة شربل بعيني، لأن شربل كتب، و"البيرق" نشرت وأوصلت ونجحت.. فألف شكر.
البيرق، العدد 672، 3 تمّوز 1993.
**
بنت جبيل تكرّم الشاعر شربل بعينيأبناء بنت جبيل، البلدة الجنوبيّة الصّامدة، أمّوا دار الشاعر شربل بعيني، مساء السبت الماضي، لتقديم الشكر له على قصيدته الخالدة "قرف".
وكم كانت فرحتهم عظيمة عندما وجدوا في استقبالهم نخبة من كبار أدباء وشعراء ومثقّفي المهجر الأسترالي الأحرار.
تـمّ التعارف بين الجميع، وساد اللقاء جوّ مفعم بالودّ والمحبّة، كأنّهم أصدقاء قدامى. ومن ثَـمَّ وقف الدكتور قاسم مصطفى، رئيس جمعيّة أبناء بنت جبيل، وطلب من الحضور المعذرة، ليقدّم لحبيب الشّعب الشاعر المجدلاوي شربل بعيني لوحةً نحاسيّة، تمثّل المركب الفينيقي، الذي حمل الحرف والحضارة إلى العالـم أجمع.
وفي كلمته المختصرة قال الدكتور مصطفى: "إن قصيدة قرف إكليل غار يتوّج رؤوس أبناء بنت جبيل المقيمين والمغتربين".
كما قال الدكتور علي بزّي: "إن أبناء بنت جبيل باتوا يردّدون قصيدة "قرف" عن ظهر قلب، لأنها تعبّر عن واقهم الأليم".
أما الدكتور خليل مصطفى فقد سمّى هذا الزّمن بزمن القرف، نسبة إلى القصيدة الإنسانيّة الرائعة.
كما قدّم السيّد صعب سبحة عاجيّة للشاعر شربل بعيني، صنعت في بنت جبيل، وجرت في اللقاء مداخلات سياسيّة وأدبيّة كثيرة، بين الشاعر نعيم خوري وأبي طارق وإيلي ناصيف من جهة، والدكتورين قاسم وخليل مصطفى وكامل المرّ ورفيق غنّوم من جهة ثانية، أجمعوا فيها على أن الشّعب العربي يعيش حالة من القرف، قد توصله إلى مرحلة الإحباط اليائس، لولا يقظة الشرفاء من الشعراء والأدباء والمفكّرين، الذين ينادون بالتمرّد والثورة لتغيير واقعنا المقرف.
بادرة بنت جبيل تجاه الشاعر شربل بعيني، جاءت عربون وفاء للكلمة الحرّة الهادفة، التي تذكي فينا شعلة الثورة والانتفاضة لبناء غد مشرق وضّاء.
البيرق، العدد 684، 31 تمّوز 1993
**